محمد علي باشا
"الجزء الثالث"
حملاته العسكرية
إخماد ثورة اليونان
ان الاصلاحات والتنظيمات التي قام بها محمد علي كانت خطوات في سبيل الاستقلال،
ولم يفت الدولة العثمانية إدراك ذلك، لكنها كانت في شغل شاغل عنه باضطراباتها
الداخلية، فلم تكن من مصلحتها مشاكسته أو التعرض لأي عمل من أعماله، بل لم تلبث أن
وجدت نفسها في حاجة الى الاستعانة به على محاربة ثوار اليونان. ويقال إنه هو نفسه
تطوع لتقديم هذه المعونة ملتمسا اعطاءه الولاية على سوريا واعفاؤه من دفع الجزية
السنوية في أثناء المحاربة حتى ينفقها على الجيش المحارب.
اشترك محمد علي بجيشه وأسطوله في اخماد ثورة اليونان
وانتصرت جنوده على الثوار انتصارات باهرة، غير ان انحياز انكلترا وفرنسا وروسية
الى اليونان حال دون الحصول على ما كان يرجوه من وراء هذه الانتصارات، بل ان
الأسطولين الإنكليزي والفرنساوي دمرا الأسطولين العثماني والمصري في موقعة نافارين
الشهيرة. واضطر الى سحب جنوده من المورة بناء على اتفاق خاص عقده مع دول الحلفاء
المتحيزين لليونان.
فحرب المورة كلفت محمد علي خسارة
معظم أسطوله غير أنها اكسبته ولاية كريت. ورفعت مكانة الجيش المصري في عيون
الأوربيين وزادت شهرة قائده ابراهيم باشا ومكنته من درس حالة الجيش العثماني
عن كثب، والوقوف على أسباب الضعف في القواد والجنود. وأظهرت هذه الحرب تفوق الجنود
المنظمة على غيرها، فضاعف اهتمامه بتنظيم الجيش وخصوصا الخيالة. ثم ان انفراده عن
السلطان بالاتفاق مع الحلفاء، كان بمثابة اعتراف دول الحلفاء ضمنا بمقامه الممتاز.
وكأن تأثيرات حرب المورة بعثت فيه نشاطا جديدا وعلمته أن الحق في أفواه المدافع
وشفار اسيوف، فجد في تنظيم جيشه وفي بناء أسطول جديد تأهبا لفتح سوريا التي كان
يطمع في ضمها الى مصر من زمن بعيد.
حملاته على سوريا
بعد ما استقر محمد علي في ولاية مصر، وأوقع بالمماليك فأمن
شر المزاحمين، ووطد أركان الأمن في البلاد، وعمل على انماء ثروتها الزراعية
والتجارية، وأحدث نهضة صناعية، وصار ذا جيش محكم التدريب يتولى ادارته أمهر القواد
المعاصرين، أخذ يتأهب لغزو سوريا والاستيلاء عليها.
وسوريا ومصر شقيقتان طالما جمعتهما دائرة حكم واحد، هذا
فضلا عما بينهما من روابط المصلحة والجنس واللغة. فلم يكن مستغربا طموح محمد علي
الى الاستيلاء عليها، لاسيما وهو الرجل الذي لا يفوته إدراك أهمية موقعها الجغرافي
وماله من المزايا الحربية والاقتصادية. وقد شبه أحد الكتاب مصر وسوريا بالنسبة الى
ما وراءهما من البلدان الشرقية بشقتي باب واحد. فكل واحد من هذين القطرين متمم
للآخر والجمع بينهما فيه الخير كل الخير لهما.
ان الحملة التي وجهت الى سوريا بقيادة ابراهيم باشا بدأت
الزحف في خريف سنة 1831.
أن الاستيلاء على سوريا مشروع قديم لم يتمكن محمد علي قبلا من اتخاذ خطة حازمة
لتنفيذه، لأنه من سنة 1828 ظل منشغلا بمحاربة الوهابيين ففتح السودان، فالاشتراك
في محاربة ثوار اليونان، وبعد ذلك شرع في بناء أسطول جديد كان لابد منه لمعاونة
الجيش البري على فتح سوريا. أما الاستيلاء على سوريا فكانت تعترضه ثلاث عقبات.
الأولى مقاومة الدولة العثمانية، لأن احتفاظها بسوريا على أعظم جانب من الأهمية
نظرا لموقعها بالنسبة الى غيرها من الولايات العثمانية. فسوريا تعترض على ما بين
مصر والبلدان العثمانية في آسيا، وهي أيضا مفتاح البلاد العربية التي كان لمحمد
علي نفوذ عظيم فيها بعد تغلبه على الوهابيين، بل كانت له عليها سيطرة فعلية، لأن
رجاله كانوا يديرون شئونها، وجنوده كانت لا تزال مرابطة فيها، فلو ضمت سوريا الى
مصر، لأصبح في حيز الامكان انفراط عقد جزيرة العرب من جيد آل عثمان، وزوال سلطانهم
عن مصر وقيام دولة إسلامية جديدة.
والعقبة الثانية أحوال سوريا نفسها التي تجعه مهمة الفاتح والحاكم
محفوفة بالمشقات، لاختلاف نزعات السكان وصعوبة مراسهم، ووعورة المسالك، وانتشار
النظام الاقطاعي، وكثرة المتغلبين وأصحاب الامتيازات المحلية.
أما العقبة الثالثة فهي تصادم مصلحة محمد علي والمصالح الأوروبية،
وعلى الأخص الإنكليزية الشرقية. وهذه العقبة كانت عقدة العقد التي تعذر حلها على
محمد علي كما تعذر على نابليون من قبله.
ان أهمية هذه العقبات لم تكن خافية على محمد علي، غير أنه لما عول على مهاجمة
سوريا كانت الأحوال السياسية في أوروبا والبلاد العثمانية مبشرة بنجاح مهمته، فلم
يخش مقاومة العثمانيين لعلمه أن حكومتهم كانت منشغلة بإخماد ثورة البوسنة، وتسكين
الاضطرابات في ألبانيا، كما أن سوريا كانت خالية من قوات تدافع عنها، فحامية حلب
كان قد وجهت الى بغداد لمحاربة واليها المتمرد داود باشا، وكانت الفوضى ضاربة
أطنابها في دمشق لاتفاق أهلها على الوالي سليم باشا وقتلهم اياه، وكانت أحوال
ولاية صيدا مضطربة بسبب حوادث نابلس ومحاصرة قلعة سانور قبل ذلك. هذا فضلا عما
أصاب الدولة العثمانية من الضعف لتواصل الثورات الداخلية، واشتباكها في حرب مع
الروسية.
أما الدول الأوروبية، فكانت منهمكة في تسكين الاضطرابات
واخماد الثورات التي نشأت عن تأثيرات مبادئ الثورة الفرنسوية في نفوس شعوبها. وسوف
نرى أنها لم تندفع لمقاومته الا بعد ما فتح جميع البلاد السورية، وأوغل في بلاد
الأناضول حتى هدد الآستانة نفسها. وكاد يثير حربا أوروبية بسبب المشاكل الدولية
التي كان يخشى حدوثها فيما لو بلغت جنوده عاصمة السلطنة العثمانية.
إنجازاته
لأنه كان طموحا بمصر ومحدثا لها ومحققا لوحدتها الكيانية
وجاعلا المصريين بشتى طوائفهم مشاركين في تحديثها والنهوض بها معتمدا على الخبراء
الفرنسيين. وكان واقعيا عندما أرسل البعثات لفرنسا واستعان بها وبخبراتها التي اكتسبتها
من نابليون. ولم يغلق أبواب مصر بل فتحها
على مصراعيها لكل وافد. وانفتح على العالم ليجلب خبراته لتطوير مصر.
ولأول مرة يصبح التعليم منهجيا. فأنشأ المدارس التقنية ليلتحق خريجوها بالجيش.
وأوجد زراعات جديدة كالقطن وبني المصانع واعتني بالري
وشيد القناطر
الخيرية علي النيل عند فمي فرعي دمياط ورشيد .
ولما استطاع محمد علي القضاء على المماليك ربط القاهرة بالأقاليم ووضع سياسة
تصنيعية وزراعية موسعة. وضبط المعاملات المالية والتجارية والادارية والزراعية لأول مرة في تاريخ مصر. وكان جهاز الإدارة أيام محمد علي يهتم أولا بالسخرة
وتحصيل الأموال الأميرية وتعقب المتهربين من الضرائب وإلحاق العقاب الرادع بهم. وكان حكام الاقاليم واعوانهم يحتكرون حق التزام الاطيان
الزراعية وحقوق امتيازات وسائل النقل. فكانوا يمتلكون مراكب النقل الجماعي في
النيل والترع يما فيها المعديات. وكان حكام الأقاليم يعيشون في قصور منيفة ولديهم
الخدم والحشم والعبيد.
ومنهم من أمتلك الأبعاديات وتولي مناصب عليا بالدولة. وكانوا
بلا عائلات ينتسبون إليها
كان محمد علي ينظر لمصر على أنها أبعديته. وتبني محمد علي
السياسة التصنيعية لكثير من الصناعات.
فقد أقام مصانع للنسيج ومعاصر الزيوت ومصانع الحصير.
وكانت السياسة العامة لحكومة محمد علي تطبيق سياسة الاحتكار
وكان على الفلاحين تقديم محاصيلهم ومصنوعاتهم بالكامل لشون الحكومة بكل ناحية
وبالأسعار التي تحددها الحكومة.
وكان ضمن سياسة محمد علي لاحتكار الزراعة تحديد نوع زراعة المحاصيل والأقاليم
التي تزرعها. وكان قد جلب زراعة القطن والسمسم. وكان محمد علي يحدد أسعار شراء المحاصيل
التي كان ملتزما بها الفلاحون. وكان التجار ملتزمين أيضا بأسعار بيعها. ومن كان
يخالف التسعيرة يسجن مؤبد أو يعدم.
عزله ووفاته
عزله أبناؤه في سبتمبر عام 1848 لأنه قد أصيب بالخرف. ومات بالإسكندرية في أغسطس 1849 ودفن بجامعه بالقلعة بالقاهرة.



0 التعليقات:
إرسال تعليق