#htmlcaption1
لمشاهدة العدد السابق

قلعة صلاح الدين الأيوبي...قلعة الجبل

قلعة صلاح الدين الأيوبي...قلعة الجبل

بمحافظة القاهرة

لا تزال الأحاديث تتزاحم عن الأماكن الأثرية، التي تركت بصمات واضحة تدل على عمق التاريخ والإرث الحضاري المشهود، بخاصة في بلاد الشام ومصر التي عرفت أرضها العديد من الحضارات التاريخية ذات التأثير النوعي والفكري المختلف في المنطقة. ومن تلك المواقع التاريخية والتي تعد من أروع وأضخم الأماكن زيارة وتنوعًا وانتباهًا واهتمامًا في مصر، تقف قلعة صلاح الدين الأيوبي والمعروفة باسم "قلعة الجبل"، بعناصرها الهندسية والمعمارية لتكون شاهدًا بارزًا مرّت به المنطقة في حقبة تميزت بالازدهار والانتشار والتطور الإنساني من خلال الدين الإسلامي الحنيف، وما تركته من قيم للعدالة والمساواة والسلم على أطراف جغرافيا العالم العربي والإسلامي عمومًا. فهي تعدّ من أفخم القلاع الحربية التي شيدت في العصور الإسلامية، وهي إحدى أهم معالم القاهرة الإسلامية الرائعة.

من مآثر السلطان صلاح الدين الأيوبي

تسمى قلعة صلاح الدين باسم قلعة الجبل؛ لكونها بُنيت فوق مرتفع يتصل بجبل المقطم، بناها 
صلاح الدين الأيوبي لحماية القاهرة؛ ولتكون مقرًا لسكناه؛ ولذلك نسبت إليه. والمقصود بالقاهرة مدينة القاهرة المعزية التي بناها الخليفة العبيدي الفاطمي المعز لدين الله بعد أن دخل مصر بعد عام 358هـ/969م.
حكم صلاح الدين الأيوبي أربعًا وعشرين سنة ، لكنه لم يقضِ منها سوى ثمانية أعوام في القاهرة، وعلى الرغم من قصر هذه الفترة، فلم يترك من حكامها أحد مثل ما خلفه هذا السلطان العظيم من آثار رائعة لا زالت باقية، ومن أهمها القلعة التي تنسب إليه.
موقع قلعة الجبل

تقع قلعة صلاح الدين الأيوبي في الحي الذي يعرف باسمها "القلعة"، وتتبع قسم الخليفة بالقاهرة، وقد أقيمت على إحدى الربى المنفصلة عن جبل المقطم على مشارف مدينة القاهرة، حيث ترى من الطريق المعروف حاليا
ً باسم صلاح سالم، الذي هو جزء من الطريق الدائري المقام حول مدينة القاهرة.
وكانت قلعة صلاح الدين قديماً تطل على مدينة القاهرة الفاطمية من الجهة الشمالية ومدينة الفسطاط والقرافة الكبرى، وبركة الكبش من الجهة الجنوبية الغربية، بينما يقع النيل في الجهة الغربية منها، وجبل المقطم من ورائها من الجهة الشرقية.
وتعتبر قلعة صلاح الدين الأيوبي بالقاهرة من أفخم القلاع الحربية التي شيّدت في العصور الوسطى فموقعها استراتيجي من الدرجة الأولى، بما يوفره هذا الموقع من أهمية دفاعية لأنه يسيطر على مدينتيّ القاهرة والفسطاط، كما أنه يشكّل حاجزاً طبيعياً مرتفعاً بين المدينتين. وهو بهذا الموقع كان يمكن توفير الاتصال بين القلعة والمدينة في حالة الحصار، كما أنها سوف تصبح المعقل الأخير للاعتصام بها في حالة إذا ما سقطت المدينة بيد العدو.
ومر بهذه القلعة الشامخة الكثير والعديد من الأحداث التاريخية، حيث شهدت أسوارها أحداثاً تاريخية مختلفة خلال العصور الأيوبية والمملوكية وزمن الحملة الفرنسية على مصر سنة 1798م، وحتى تولي محمد علي باشا حكم مصر.
ولما بنى أحمد بن طولون القصر والميدان تحت قبة الهواء هذه، كان كثيراً ما يقيم فيها، فإنها كانت تشرف على قصره، ثم اعتنى بها الأمير أبو الجيوش خماوريه بن أحمد بن طولون.
وذكر المقريزي أن قبة الهواء كانت في سطح الجرف الذي عليه القلعة والجبل، وهذا الوصف ينطبق على الربوة التي كان الإنجليز قد نصبوا عليها مواقعهم تجاه مدينة القاهرة وقت احتلالهم للقلعة ومصر سنة 1882م، وموقعها حالياً خلف متحف الشرطة وحفائر قصر الأبلق.

سطور من تاريخ قلعة صلاح الدين الأيوبي

ولقد كان السلطان الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب أول من فكر ببناء القلعة على ربوة الصوة في عام 572هـ/1176م، حيث قام وزيره 
بهاء الدين قراقوش الأسدي أحد أمرائه المخلصين، بهدم المساجد والقبور التي كانت موجودة على الصوة لكى يقوم ببناء القلعة عليها، حيث قام العمال بنحت الصخر وإيجاد خندق اصطناعي فصل جبل المقطم عن الصوة؛ زيادة في مناعتها وقوتها.
وذكر المؤرخون عن سبب بناء القلعة أن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب لما أزال الدولة الفاطمية في مصر، لم يتحول من دار الوزارة بالقاهرة، فأراد صلاح الدين الأيوبي حماية القاهرة من أي عدوان خارجي، وفي نفس الوقت حماية سلطانه من أي تمرد داخلي وبخاصة بعد قضائه على المذهب الشيعي الذي كان سائدًا منذ الدولة الفاطمية، وأحل محله المذهب السنّي.
فأمر حينئذ بإنشاء قلعة هناك وأقام على عمارتها الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدي فشرع في بنائها وبنى سور القاهرة الذي زاده في سنة 572هـ وهدم الأهرام الصغار التي كانت بالجيزة تجاه مصر، وكانت كثيرة العدد ونقل ما وجد بها من الحجارة، وبنى به سوراً يحيط بالقاهرة والقلعة وقناطر الجيزة، وقصد أن يجعل السور يحيط بالقاهرة والقلعة ومصر، فمات السلطان قبل أن يتم الغرض من السور والقلعة.
غادر الناصر صلاح الدين الأيوبي القاهرة متجهاً إلى بلاد الشام عام 579هـ/1183م قبل إتمام بناء القلعة وتحصينها ولم يقدر للناصر صلاح الدين العودة مرة أخرى إلى القاهرة حيث مات عام 589هـ/1193م ودفن في دمشق. فبعد ست سنوات من العمل، أُنجز معظم بناء القلعة، لكن لم ينته البناء، فأُهمل العمل فيها مدة، إلى أن كانت سلطنة الملك الكامل محمد بن الملك العادل، فأتم بناءها، وذلك في عام 604هـ/1207م، وأنشأ فيها الدور السلطانية، واتخذها سكنًا له، وظل يسكنها حتى مات، فاستمرت من بعده دار مملكة مصر حتى عام 1850م.
ولقد مر بهذه القلعة الشامخة الكثير والعديد من الأحداث التاريخية الدامية وفيها توج سلاطين وذبح آخرون، وظلت منذ أن أنشأها صلاح الدين الأيوبي مقرًا للحكم في الدولة الأيوبية ودولة المماليك وفي عهد الولاة العثمانيين،   ثم في عهد الأسرة العلوية (أسرة محمد علي باشا). واستمرت كذلك إلى عصر الخديوي إسماعيل حيث اتخذ قصر عابدين مقرًا للملك.
وعندما وصل نابليون بونابرت إلى مصر سنة 1798م على رأس الحملة الفرنسية كانت القلعة قد فقدت أهميتها منذ قرون مضت، وبالتالي فإنها سقطت بين يديه بسهولة.
وعلى الرغم من أن الاحتلال الفرنسي لمصر لم يدم فترة طويلة حيث رحل عنها سنة 1801م، إلا أن العلماء الذين رافقوا الحملة الفرنسية تركوا لنا أقدم خريطة للقلعة في كتابهم الذي وضعوه وهو "وصف مصر"، حيث وضعوا به مخططاً كاملاً للقلعة وأهم مبانيها ومنشآتها في القرن الثامن عشر الميلادي.
وعندما احتُلت مصر سنة 1882م اتُخِذت القلعة مقراً لقيادة أركان الجيش البريطاني الذي ظل بها حتى سنة 1946م عندما تم جلاء الإنجليز من القلعة في عهد الملك فاروق الأول، وتم رفع العلم المصري بها حيث تسلًمها الجيش المصري وظلت تحت قيادته إلى أن تسلَمتها هيئة الآثار المصرية سنة 1983م، فقامت بالعديد من أعمال الترميم والإصلاح. وفى سنة 1994م قام المجلس الأعلى للآثار بترميم السور الشمالي وبعض المباني.
الوصف المعماري لقلعة صلاح الدين

تزخر قلعة صلاح الدين الأيوبي بالعديد من الآثار التي ترجع إلى عصور إسلامية مختلفة جعلتها من مجرد قلعة حصينة كانت تستخدم في الدفاع عن المدينة في حالة أي هجوم إلى مدينة كاملة احتوت على مساجد وأسبلة وقصور ودواوين ومصانع حربية ومشغل لكسوة الكعبة المشرّفة ومدارس حربية ومدنية، وغيرها من المنشآت التي ميّزت قلعة صلاح الدين الأيوبي عن غيرها من القلاع التي بُنيت في العصور الإسلامية.
ويجد الزائر أول ما يقابله عند الدخول من باب صلاح سالم ساحة كبيرة عُرفت في المصادر باسم الحوش السلطاني أو الساحة الملكية وهي منطقة كانت تقع بها أبنية قديمة يرجع تاريخها إلى العصر المملوكي، قام محمد على باشا بتجديد المباني الواقعة بها، وإنشاء مبان جديدة محلّها.
وقد وضع قراقوش التخطيط المعماري للقلعة على جهتين مستقلتين عن بعضهما، أولهما الجهة الشمالية وتضم الحصن الحربي وتوجد بها أبراج بارزة، والجهة الجنوبية وتضم القصور والاصطبلات.
ولم تكن قلعة صلاح الدين مجرد مبنى عسكري يسكنه الجنود، ولكنها كانت مدينة متكاملة، حتى أن صلاح الدين أنشأ بها المدرسة الناصرية لتدريس أصول الدين وعلومه، كما بنى ملوك مصر من بعده عددًا من القصور والمساجد بها مثلما فعل الملك الكامل، والظاهر بيبرس، ومحمد علي.

أسوار القلعة

وتزخر قلعة صلاح الدين الأيوبي بالعديد من الأسوار والأبراج والأبواب، حيث أن أول ما يلفت النظر إلى القلعة هو ارتفاعها الشاهق وأسوارها الحصينة الشامخة والصامدة على مر السنين والعصور.





أبواب القلعة

ولقلعة الجبل بابان؛ أحدهما الباب الأعظم المواجه للقاهرة، ويقال له: الباب المدرج، والباب الثاني باب القرافة يواجه جبل المقطم. وكان للقلعة باب ثالث هو باب السر، يختص بالدخول والخروج منه أكابر الأمراء وخواص الدولة كالوزير وكاتب السر ونحوهما. وقد سدت بعض هذه الأبواب وبطل استخدامها لتحل محلها أبواب جديدة جددت في عصر محمد علي باشا.
والأبواب الرئيسية للقلعة حالياً هي باب المقطم، وعُرف بهذا الاسم لمجاورته لبرج المقطم الذي يرجع تاريخه إلى العصر العثماني، كما عرف هذا الباب باسم باب الجبل لإشرافه على باب جبل المقطم، أما حاليًا فإنه يعرف باسم بوابة صلاح سالم.
إصلاحات القلعة عبر التاريخ

وقد طرأت على مباني القلعة تغيرات كثيرة، وإضافات متعددة، ولا يُرى فيها اليوم من أعمال صلاح الدين سوى بعض أجزاء السور والأبواب. ووُسّعت القلعة في العصر المملوكي من قبل 
الناصر محمد بن قلاوون باتجاه الجنوب كما تمت إصلاحات أخرى كثيرة على مراحل متعددة في زمن سلاطين أربعة هم: السلطان الظاهر برقوق الجركس الخليلي والسلطان قايتباي والسلطان طومان باي . وأعمال الإصلاح هذه مثبتة في كتابات منقوشة على جدران القلعة.
تمت في العصر العثماني بعض أعمال الترميم لقلعة الجبل، من أهمها ما قام به خير بك، أول الولاة الذين ولاّهم السلطان سليم الأول على مصر. فأرسل بعد أن أقام فيها في طلب البنائين والنجارين والمبلطين لترميم ما تم إفساده سابقًا.
كما قام الوالي سليمان باشا بإشادة مبان متعددة فيها، من بينها جامع سارية الجبل الذي كان يعرف بجامع سليمان باشا الخادم، وكان أول جامع شيد في مصر على الطراز العثماني.
وقد زار الرحالة جان دو تيفنو J.de Tefnaux القاهرة فوصفها، ووصف مبانيها وأحوالها، وقد أثار منظر القلعة دهشته، فقال إنه لم ير قط في العالم أجمل من أبنيتها ولا أضخم وأمنع منها، فقد كانت أشهر معلم معماري في القاهرة آنذاك، وكان فيها قاعة كبيرة جيدة البناء يُعمل فيها ستار الكعبة، ويرسل سنويًا إلى مكة المكرمة باحتفال كبير.
أخذت القلعة تفقد مكانتها تدريجيًا نتيجة لإهمال حكامها من الولاة الأتراك، ولم يبق منها سوى بعض الأماكن صالحة للسكن، وكانت تقام فيها المهرجانات الرسمية لاستقبال الولاة، أو حفلات الأعياد القومية والدينية.

قصور الحريم

تضم قلعة صلاح الدين مسجد محمد علي ويسمى بمسجد المرمر، وبئر يوسف، وقصر الحريم، وسطوراً من التاريخ الإسلامي والعربي. يوجد بالقلعة قصور الحريم، وهي تتكون من ثلاثة قصور بنيت بشكل منفصل عن بعضها، لكنها تتحد في الطابق الأرضي، أقدمها القصر الأوسط ، ثم القصر الشرقي، ثم الغربي، عرفت هذه القصور بطريق الخطأ بقصور الحريم، حيث إنّها خصصت لكثير من الأغراض، ومنها إسكان اليتامى من عائلة محمد علي باشا وأمراء المماليك، وتضم اليوم المتحف الحربي المصري، وهو يحكي قصة العسكرية المصرية من العصر الفرعوني إلى يومنا هذا في عرض شائق، ينسي زائرها تاريخها وعمارتها الرائعة التي تعكس أسلوب العمارة العثماني، والتي تأثرت بالعمارة الأوروبية.
كما بنى محمد علي قصرًا آخر لزوجاته وليكون مقرًا للحكم أسماه "قصر الجوهرة" وقد أقامه على أطلال قاعات مملوكية ومنشآت أخرى أبرزها مقعد السلطان قايتباي؛ ليشرف على القاهرة كلها حتى الآن من خلال ساحته التي يطلقون عليها "البانوراما". يراودك الإحساس عند دخول هذا القصر بأنك في قصر المرايا، فعند مدخله سلم به عدد من الدرجات الهابطة في مواجهتها مرآة ضخمة بطول الحائط، السبب في وجودها خوف محمد علي من الغدر به من الخلف فكان يحب أن يرى ما يحدث خلف ظهره، وفي طابق قاعة العرش مرآة أخرى كسابقتها تكشف من يدخل من باب القصر ومن يدخل على محمد علي.
بئر يوسف

وقام قراقوش بحفر بئر ماء على عمق 100 متر، منها 85 مترًا حفرت في الصخر، حملت اسم "بئر يوسف" نسبة إلى صلاح الدين الأيوبي، والتي لا تزال موجودة حتى الآن ولكن من دون استعمال. ويتميز بئر يوسف بالإعجاز الهندسي، وهو أحد الآثار الباقية من العصر الأيوبي. تتكون البئر من مقطعين ليسا على استقامة واحدة إلا أنهما يتساويان في العمق تقريبًا، من أجل ذلك سمي هذا الأثر بئرين في كتابات بعض المؤرخين، والعامة ينسبون هذه البئر إلى النبي يوسف عليه السلام، لكن الأدلة التاريخية تؤكد أن البئر حفر في عهد الناصر صلاح الدين واسمه الكامل صلاح الدين يوسف بن أيوب.

حوش الباشا

وأُضيف حوش الباشا إلى القلعة في عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون لاستخدامه كحديقة للطيور والحيوانات، وتغير استخدامه لأغراض كانت للنطاق السلطاني من قبل، إلى أن أنيطت به جميع وظائف وأغراض النطاق السلطاني في عهد المماليك والعثمانيين. ومن الجدير بالذكر أن تسمية هذا النطاق بحوش الباشا، ترجع إلى كون المكان مقر البشوات في مصر في العهد العثماني.


مباني أخرى بالقلعة

ولا تقتصر مباني القلعة على ما ذكرناه فقط، وبخاصة أنها كانت في تلك العهود دارًا للحكم والحياة أيضًا، فقد بني بها عدد من الدواوين مثل "الأنتيكخانة" الخاصة بحفظ الوثائق الرسمية، ودار لصك العملة والطباعة. بين أسوار القلعة يمكنك أيضًا زيارة مسجدين آخرين هما جامع السلطان الناصر محمد بن قلاوون ويوجد في وسط القلعة تقريباً. وقد ظل المسجد الرئيسي للقلعة حتى بنى محمد علي مسجده. هناك أيضًا مسجد سليمان باشا الخادم الذي أنشئ في عهد الدولة الفاطمية ويطلق عليه أيضا اسم "جامع سارية الجبل".

بالقرب من هذين المسجدين ترى متحف الشرطة الذي كان سجناً حربياً تم إنشاؤه بقرار جمهوري عام 1968م على أنقاض أحد سجون المماليك التي كانت قائمة في ذات الموقع، ولطالما احتوت جدرانه أنات المعتقلين السياسيين به، حتى افتتح في أكتوبر 1984م كمتحف لتاريخ الشرطة.


Share on Google Plus

About Petroleum Marine Services

0 التعليقات:

إرسال تعليق